فصل: تفسير الآيات رقم (36- 37)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «وازرة»‏:‏ صفة لمحذوف، أي‏:‏ نفس آثمة‏.‏ و«إن تدع»‏:‏ شرط، و«لا يُحمل»‏:‏ جواب، و«لا» النافية لا تمنع الجواب من الجزم‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولا تَزِرُ وازرة وِزْرَ أُخرى‏}‏ أي‏:‏ ولا تحمل نفس آثمة إثمَ نَفْسٍ أخرى، والوزر والوِقر أخوان، ووزَر الشيء‏:‏ حمله‏.‏ والمعنى‏:‏ أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته، فلا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى، كما تأخذ جبابرةُ الدنيا الظلمةُ الجارَ بجريمة الجار، والقريبَ بالقريب، فذلك ظلم محض‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏ ففي الضالّين المضلّين، فإنهم يحملون أثقال إضلالهم وأثقال ضلالهم، وكل ذلك أوزارهم، ليس فيها شيء من أوزار غيرهم‏.‏ ألا ترى كيف كذّبهم الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 12‏]‏‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ مَن تطرق من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمة كفعل زياد ونحوه، فإن ذلك، لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بمؤازرة، أو مواصلة، أو اطلاع على حاله، أو تقرير له، فهذا قد أخذ من الجُرم بنصيب‏.‏ وهذا هو المعنى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليحملن أثقالهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية؛ لأنهم أغروهم، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَن سنَّ سُنَّة حسنة‏.‏‏.‏» الحديث، فراجعه‏.‏ قلت‏:‏ لا يجوز الإقدام على ظلم أحد بمجرد الظن، فالصواب حسم هذا الباب، والتصريح بتحريمه؛ لكثرة جوز الحُكام‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن تَدْعُ‏}‏ نفس ‏{‏مثقلةً‏}‏ بالذنب أحداً ‏{‏إِلى حِمْلِها‏}‏ أي‏:‏ إلى حمل ثِقل ذنوبها، ليتحمل عنها بعض ذلك، ‏{‏لا يُحْمَل منه شيءٌ ولو كان‏}‏ المدعو، المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏وإِن تدع‏}‏، ‏{‏ذا قُربى‏}‏ ذا قرابة قريبة، كأب، وولد، وأخ‏.‏ والفرق بين معنى قوله‏:‏ ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ وبين قوله‏:‏ ‏{‏إِن تدع مثقلة إلى حِمْلها لا يُحمل منه شيء‏}‏ أنَّ الأول دالّ على عدل الله في حكمه، وأنه لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها، والثاني‏:‏ في بيان أنه لا غياث يومئذ لمَن استغاث، فمَن أثقلته ذنوبه ثم استغاث بأحد لم يُغثه، وهذا غاية الإنذار‏.‏

ثم بيّن مَن ينتفع به بقوله‏:‏ ‏{‏إِنما تُنذِرُ الذين يخشون ربهم‏}‏ أي‏:‏ إنما ينتفع بإنذارك مَن خشي ربه ‏{‏بالغيب‏}‏ أي‏:‏ يخشون ربهم غائبين عنه، أو‏:‏ يخشون عذابه غائباً عنهم، فهو حال، إما من الفاعل أو المفعول المحذوف‏.‏ أو‏:‏ يخشون ربهم في حال الغيب، حيث لا اطلاع للغير عليهم، فيتقون الله في السر، كما يتقون في العلانية‏.‏ ‏{‏وأقاموا الصلاةَ‏}‏ أتقنوها في مواقيتها، ‏{‏ومَن تزكَّى‏}‏ أي‏:‏ تطهّر بفعل الطاعات، وترك المنهيات، ‏{‏فإِنما يتزكَّى لنفسه‏}‏ إذ نفعه يعود لها، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم، وإقامتهم الصلاة؛ لأنها من جملة التزكي‏.‏

‏{‏وإِلى الله المصيرُ‏}‏ المرجع، فيجازيهم على تزكيتهم، وهو وعد للمتزكِّين بالثواب‏.‏

الإشارة‏:‏ وبال الوزر خاص بصاحبه، إلا إذا كان مقتدى به، فإنَّ عيبه أو نقصه يسري في أصحابه، حتى يطهر منه؛ أن الصحبة صيرت الجسدين واحداً‏.‏ وراجع ما تقدّم عند قوله‏:‏ ‏{‏واتَّقُوا فِتْنَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏ الآية‏.‏ قال القشيري‏:‏ ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ كلٌّ مُطَالَبٌ بعمله، ومحاسبٌ عن ديوانه‏.‏ ولكلٍّ معه شأن، وله مع كلِّ أحدٍ شأن، ومن العبادات ما تجري فيها النيابة، ولكن في المعارف لا تجري النيابة؛ ولو أن عبداً عاصياً منهمكاً في غوايته فاتته صلاةٌ مفروضةٌ، فلو قضى عنه ألفُ وليٍّ، وألفُ صَفِيٍّ، تلك الصلاة الواحدة، عن كل ركعةٍ ألف ركعةٍ لم تُقْبَلْ‏.‏ ه‏.‏ وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنما تُنذر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏:‏ الإنذار هو الإعلام بموضع المخافة‏.‏ والخشيةُ هي المخافة، فمعنى الآية‏:‏ لا ينتفع بالتخويف إلا صَاحِبُ الخوف طيرُ السماء على إلافها تقع‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏(‏19‏)‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏(‏20‏)‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏(‏21‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏22‏)‏ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ‏(‏23‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ‏(‏24‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأعمى والبصيرُ‏}‏ أي‏:‏ لا يستوي الكافر والمؤمن، أو الجاهل والعالم‏.‏ وقيل‏:‏ هما مثلان للصنم والله تعالى‏.‏ ‏{‏ولا الظلماتُ‏}‏ كالكفر والجهل، ‏{‏ولا النورُ‏}‏ كالإيمان والمعرفة، ‏{‏ولا الظلُّ‏}‏ كنعيم الجنان، ‏{‏ولا الحَرورُ‏}‏ كأليم النيران‏.‏ والحَرور‏:‏ الريح الحارّ كالسموم، إلا أن السموم يكون بالنهار، والحرور يكون بالليل والنهار‏.‏ قاله الفرّاء‏.‏

‏{‏وما يستوي الأحياءُ ولا الأمواتُ‏}‏ تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين، أبلغ من الأول، ولذلك كرر الفعل، وقيل‏:‏ للعلماء والجهال‏.‏ وزيادة «لا» في الجميع للتأكيد، وهذه الواوات بعضها ضمت شفعاً إلى شفع، وبعضها وترأً إلى وتر‏.‏ ‏{‏إِن الله يُسْمِعُ من يشاء‏}‏ بهدايته وتوفيقه لفهم آياته والاتعاظ بها‏.‏ ‏{‏وما أنت بمُسْمِعٍ مَن في القبور‏}‏ شبّه الكفار بالموتى، حيث لا ينتفعون بمسموعهم، مبالغة في تصاممهم، يعني أنه تعالى عَلِمَ مَن يدخل في الإسلام ممن لا يدخل، فيهدي مَن يشاء هدايته، وأما أنت فخفي عليك أمرهم، فلذلك تحرص على إسلام قوم مخذولين، فإنذارهم كإنذار مَن في القبور من الموتى‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ الآية تمثيل بما يحسّه البشر، ويعهده جميعنا من أنَّ الميت الذي في القبر لا يسمع، وأما الأرواح؛ فلا نقول‏:‏ إنها في القبر، بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين في شجر عند العرش، وفي قناديل وغير ذلك، وأن أرواح الكفرة في سجِّين، ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور، فربما سمعت، وكذلك أهل قليب بدر، إنما سمعت أرواحهم، فلا تعارض بين الآية وحديث القليب‏.‏ ه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِن أنت إِلا نذيرٌ‏}‏ أي‏:‏ ما عليك إلا التبليغ والإنذار، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفعه، وإن كان من المصريين فلا عليك‏.‏

‏{‏إِنَّا أرسلناك بالحق‏}‏ أي‏:‏ محقاً، أو‏:‏ محقين‏:‏ أو‏:‏ إرسالاً مصحوباً بالحق، فهو حال من الفاعل، أو المفعول، أو صفة لمصدر محذوف، ‏{‏بشيراً‏}‏ لمَن آمن ‏{‏ونذيراً‏}‏ لمَن كفر، ‏{‏وإِن من أُمَّةٍ إلا خلا فيها نذيرٌ‏}‏ أي‏:‏ ما من أمة من الأمم الماضية، قبل أمتك، إلا فيها نذير؛ نبيّ، أو عالم، يخوفهم‏.‏ ويقال لأهل كل عصر‏:‏ أمة‏.‏ والمراد هنا‏:‏ أهل العصر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ معناه‏:‏ أن دعوة الله تعالى قد عمَّت جميع الخلق، وإن كان فيهم مَن لم تباشره النِّذارة، فهو ممن بَلَغَته الدعوة، لأن آدم بُعث إلى بنيه، ثم لم تنقطع النذارة إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والآية تتضمن أن قريشاً لم يأتهم نذيرٌ، ومعناه‏:‏ نذيرٌ مباشر، وما ذكر المتكلمون من فرض أصحاب الفترات ونحوهم، فإنما ذلك بالفرض، لا أنه توجد أُمةً لم تعلم أن في الأرض دعوة إلى عبادة الله‏.‏ ه‏.‏

وذكر في الإحياء، في باب التوبة‏:‏ أنه يشبه أن يكون مَن لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، وعاشوا على البله وعدم المعرفة، فلم تكن لهم معرفة، ولا جحود، ولا طاعة، ولا معصية، هم أهل الأعراف؛ لأنه لا وسيلة تقربهم، ولا جناية تُبعدهم، فما هم من أهل الجنة، ولا من أهل النار، ويُتركون في منزلة بين المنزلتين، ومقام بين المقامين‏.‏

ه‏.‏ وقال ابن مرزوق في شرح حديث هرَقْل‏:‏ الدين الحق هو الإسلام، وما سواه باطل، عقلاً ونقلاً، فلا عذر لمنتحليه بالإجماع، كان متأولاً مجتهداً، أو مقلداً جاهلاً؛ لأن أدلة الإسلام واضحة قطعية، ومخالف مقتضاها مخطىء قطعاً‏.‏ ه‏.‏

وقال ابن عطية أيضاً، ما نصه‏:‏ آدم عليه السلام فمن بعده، دعا إلى توحيد الله تعالى دعاءً عاماً، واستمر ذلك على العالم، فواجب على الآدمي أن يبحث عن الشرع، الآمر بتوحيد الله تعالى، وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك، بحسب إيجاب الشرع النظر فيها، ويؤمن، ولا يعبد غير الله، فمَن فرضناه لم يجد سبيلاً إلى العلم، فأولئك أهل الفترات، الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة، وهم بمنزلة الأطفال والمجانين، ومن قصر في النظر والبحث، فَعَبَد صنماً أو غيره، وكفر، فهذا ترك الواجب عليه، مستوجب للعقاب بالنار‏.‏ ه‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ إنما صاحب الفترة بفرض أنه آدمي، لم يصل إليه‏:‏ أن الله بعث رسولاً، ولا دعا إلى دين وهذا قليل الوجود إلا إن شذ في أطراف الأرض، والمواضع المنقطعة عن العمران‏.‏ ه‏.‏

والحاصل‏:‏ أن مَن بلغه خبر الشرائع السابقة، والدعاء إلى توحيد الله، لا عذر له، وإنما بُعثت الرسل بعد ذلك تجديداً، ومبالغة في إزاحة العذر، وإكمال البيان‏.‏ قاله المحشي‏.‏

الإشارة‏:‏ وما يستوي الأعمى، الذي لا يرى إلا حس الكائنات، والبصير، الذي فتحت بصيرته، فشاهد المكوّن، ولم يقف مع حس الكون، ولا الظلمات‏:‏ المعاصي والغفلة ودائرة الحس، ونور اليقظة والعفة والمعرفة، ولا ظل برْد الرضا والتسليم، وحرور التدبير والاختيار، وما يستوي الأحياء، وهم العارفون بالله، الذاكرون الله، والأموات الجاهلون، أو الغافلون‏.‏ قال القشيري‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، كذلك لا يستوي الموصول بنا والمشغول عنَّا، والمجذوبُ إلينا والمحجوبُ عنَّا، ومَن أشهدناه حقَّنا، ومَن أغفلنا قلبه عن ذِكْرِنا‏.‏ ه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن من أُمةٍ إِلا خلا فيها نذير‏}‏ النذير على قسمين‏:‏ نذير من وبال الذنوب، ونذير من وبال العيوب‏.‏ فوبال الذنوب‏:‏ العذاب، ووبال العيوب‏:‏ الحجاب، فمَن تطهَّر من الذنوب استوجب نعيم الجنان، ومَن تطهّر من العيوب استوجب لذيذ الشهود والعيان‏.‏ فالنذير الأول عالم بأحكام الله، والثاني عارف بالله الأول مقتصد، والثاني سابق، ولا يخلو الدهر منهما، حتى يأتي أمر الله، فالشريعة باقية قائمة بقيام العلماء، والطريقة والحقيقة قائمتان بقيام الأولياء العارفين بالله، أهل التربية النبوية، بالاصطلاح، والهمة، والحال‏.‏ ومَن قال خلاف هذا فقد قال بالمحال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإِن يُكذّبوك‏}‏ أي‏:‏ قومك ‏{‏فقد كَذَّب الذين مِن قبلهم‏}‏ رسلهم، حال كونهم قد ‏{‏جاءتهم رُسُلُهم بالبينات‏}‏ بالمعجزات الواضحة، ‏{‏وبالزُّبر‏}‏ وبالصحف ‏{‏وبالكتاب المنير‏}‏ أي‏:‏ التوراة، والإنجيل، والزبور‏.‏ ولَمَّا كانت هذه الأشياء من جنسهم، أسند المجيء بها إليهمْ إسناداً مطلقاً، وإن كان بعضُها في جميعهم، وهي البينات، وبعضها في بعضهم، وهي الزُبُر والكتاب‏.‏ ويجوز أن يراد بالزُبر والكتاب واحد، والعطف لتغاير الوصفين، فكونها زُبُر باعتبار ما فيها من المواعظ التي تزبر القلوب، وكونها كتباً منيرة؛ لِمَا فيها من الأحكام والبراهين النيِّرة‏.‏ ‏{‏ثم أخذتُ الذين كفروا‏}‏ أي‏:‏ ثم عاقبتُ الكفرة بأنواع العقاب، ‏{‏فكيف كان نكير‏}‏ إنكاري عليهم، وتعذيبي لهم‏؟‏ والاستفهام للتهويل‏.‏

الإشارة‏:‏ تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية‏.‏ فأولياء كل زمان يتسلُّون بمَن سلف قبلهم، فقد قُتل بعضهم، وسُجن بعضهم، وأُجلي بعضهم، إلى غير ذلك؛ زيادة في مقامهم وترقية بأسرارهم‏.‏ والله عليم حكيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ‏(‏27‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏مختلفاً‏}‏‏:‏ نعت ‏{‏ثمرات‏}‏‏.‏ و‏{‏مختلف ألوانه‏}‏‏:‏ صفة لمحذوف، أي‏:‏ صنف مختلف‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ألم تَرَ أن الله أنزلَ من السماء ماءً فأخرجنا به‏}‏ بالماء ‏{‏ثمراتٍ مختلفاً ألوانُها‏}‏ أي‏:‏ أجناسها، كالرمان، والتفاح، والتين، والعنب، وغيرها مما لا يُحصى، أو‏:‏ ألوانها‏:‏ هيئاتها من الحُمرة والصفرة ونحوهما‏.‏ ‏{‏ومن الجبال جُدَد‏}‏ طُرق مختلفة اللون‏.‏ جمع‏:‏ جُدَّة، كمُدَّةٍ ومُدَدٍ‏.‏ والجُدة‏:‏ الطريقة والخطة، تكون في الجبل، تخالف لون ما يليها‏.‏ وكل طريقة من سواد أو بياض فهي جُدة‏.‏ قاله الهروي‏.‏ وهي مبتدأ وخبر، أي‏:‏ وطرق ‏{‏بِيض وحُمْرٌ‏}‏ كائنة من الجبال‏.‏

‏{‏وغرابيبُ سود‏}‏ أي‏:‏ ومنها غرابيب سود، أي‏:‏ ومن الطرق سود غرابيب؛ جمع‏:‏ غربيب، وهي الذي أبعد في السواد وأغرب، ومنه‏:‏ الغراب‏.‏ قال الهروي‏:‏ هي الجواد ذوات الصخور السود، والغربيب‏:‏ شديد السواد‏.‏ ه‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ تقول هذا أَسود غربيب، أي‏:‏ شديد السواد، وإذا قلت‏:‏ غرابيب سود؛ تجعل السود بدلاً من غرابيب؛ لأن توكيد الألوان لا يتقدم‏.‏ ه‏.‏ تقول‏:‏ أصفر فاقع، وأسود حالك، ولا يتقدم الوصف، ونقل الكواشي عن أبي عبيد‏:‏ أن في الآية تقديماً وتأخيراً، تقديره‏:‏ وسود غرابيب‏.‏ وفائدته‏:‏ أن يكون المؤكد مضمراً، والمظهر تفسيراً له، فيدل على الاعتناء به، لكونهما معاً يدلان على معنىً واحد‏.‏ ه‏.‏ ولا بد من تقدير حذف مضاعف في قوله‏:‏ ‏{‏ومن الجبال جُدَد‏}‏ أي‏:‏ من الجبال ذو جدد بيض، وحمر، وسود غرابيب؛ حتى يؤول إلى قولك‏:‏ ومن الجبال مختلف ألوانه، كما قال‏:‏ ‏{‏ثمرات مختلفاً ألوانها‏}‏‏.‏

‏{‏ومن الناس والدوابِّ والأنعامِ مختلفٌ ألوانه‏}‏ أي‏:‏ ومنهم صنفٌ مختلف ألوانه بالحمرة والصفرة والبياض والسواد‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ كاختلاف الثمرات والجبال‏.‏ قال القشيري‏:‏ تخصيص الفعل بهيئته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه‏.‏ فإتقان الفعل وإحكامه شواهد الصنع وإعلامه‏.‏ وكذلك أيضاً الناس والدواب والأنعام، بل جميع المخلوقات، متجانس الأعيان، مختلف الصفات، وهو دليل ثبوت منشئها بنعت الجلال ه‏.‏

الإشارة‏:‏ ألم تر أن الله أنزل من سماء الغيوب ماء الواردات الإلهية، فأخرجنا به ثمرات، وهي العلوم والأذواق والوجدان، مختلف ألوانها، فمنها علوم الشرائع، وتحقيق مسائلها، ومنها علم العقائد، وتشييد أدلتها وبراهينها، ومنها علوم اللسان بإتقان قواعدها، ومنها علم القلوب وتصفيتها من العيوب، وهو علم الطريقة، ومنها علم الأسرار، وهي أسرار الذات والصفات، وهو علم الحقيقة‏.‏ ومن جبال العقل طُرق بيض، وحمر، وسود، فالبيض‏:‏ طرق الكشف والبيان، وحلاوة الذوق والوجدان، والحُمر‏:‏ طُرق الدليل والبرهان؛ لأنها قد تظهر وتخفى، والسود الغرابيب‏:‏ عقول الفلاسفة والطبائعيين، أهل الحدس والتخمين، إذا لم يقتدوا بالكتاب المبين، وشرعِ النبي الأمين‏.‏

أولئك هم الضالون المضلُّون‏.‏

ولمّا كان النظر في هذه المصنوعات إنما يكون بالعلم، ذكر أهله، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنما يخشى اللهَ‏}‏ أي‏:‏ يخافه ‏{‏من عباده العلماءُ‏}‏ لأنهم هم الذين يتفكرون في عجائب مصنوعاته، ودلائل قدرته، فيعرفون عظمته وكبرياءه، وجلاله وجماله، ويتفكرون فيما أعد الله لمَن عصاه من العذاب ومناقشة الحساب، وفيما أعد لمَن خافه وأطاعه من الثواب، وحسن المآب، فيزدادون خشية، ورهبة، ومحبة، ورغبة في طاعته، وموجب رضوانه، دون مَن عداهم من الجهّال‏.‏ وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏

«أعلمكم بالله أشدكم له خشية» وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رأس الحكمة مخافة الله»‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ مَن لم يَخشَ الله فليس بعالم، وقال ابن عباس في تفسير الآية‏:‏ كفى بالزهد عِلماً، وقال ابن مسعود‏:‏ كفى بخشية الله عِلماً، وبالاعتذار جهلاً‏.‏ وفي الحِكَم‏:‏ «خيرُ علم ما كانت الخشية معه»‏.‏ وقال في التنوير‏:‏ اعلم أن العلم حيثما تكرر في الكتاب والسُنَّة؛ فإنما المراد به العلم النافع، الذي تٌقارنه الخشية، وتكتنفه المخافة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ‏}‏ بيّن سبحانه أن الخشية تلازم العلم، وفهم من هذا أن العلماء إنما هم أهل الخشية‏.‏ ه‏.‏

وقال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه‏:‏ واعلم أن العلم النافع، المتفق عليه فيما سلف وخلف، إنما هو العلم الذي يؤدي بصاحبه إلى الخوف والخشية، وملازمة التواضع والذلة، والتخلُّق بأخلاق الإيمان، إلى ما يتبع ذلك من بغض الدنيا والزهادة فيها، وإيثار الآخرة عليها، ولزوم الأدب بين يدي الله تعالى، إلى غير ذلك من الصفات العلية، والمناحي السنية‏.‏ ه‏.‏

وقال في لطائف المنن‏:‏ شاهد العلم، الذي هو مطلب الله تعالى‏:‏ الخشية، وشاهد الخشية‏:‏ موافقة الأمر، فأما علم تكون معه الرغبة في الدنيا، والتملُّق لأربابها، وصرف الهمة لاكتسابها، والجمع، والادخار، والمباهاة، والاستكثار، وطول الأمل، ونسيان الآخرة، فما أبعد مَنْ هذا نعته مِنْ أن يكون من ورثة الأنبياء‏!‏ وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي كان بها عند الموروث عنه‏.‏ ومثل مَنْ هذه الأوصاف أوصافه من العلماء كالشمعة، تُضيء على غيرها، وهي تحرق نفسها‏.‏ جعل الله العلم الذي علمه من هذا وصفه حجة عليه، وسبباً في تكثير العقوبة لديه‏.‏ ه‏.‏

وتقديم اسم الله تعالى، وتأخير العلماء، يُؤذِن أن معناه‏:‏ إن الذين يخشون الله من عباده العلماء دون غيرهم‏.‏ ولو عكس، بأن قال‏:‏ إنما يخشى العلماءُ الله، لكان المعنى‏:‏ أنهم لا يخشون إلا الله‏.‏

وقرأ أبو حنيفة وعمر بن عبد العزيز‏:‏ بنصف «العلماء» ورفع «الله»‏.‏

والخشية في هذه القراءة بمعنى التعظيم‏.‏ والمعنى‏:‏ إنما يعظم اللهُ من عباده العلماءَ‏.‏ وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يقول الله للعلماء يوم القيامة إِذا قَعَدَ على كُرسيِّه، يفصل قضاء عباده‏:‏ إني لم أجعلْ عِلْمي وحِلْمي فِيكُمْ؛ إلا وأنا أُريدُ أن أغفرَ لكم، على ما كان فيكم، ولا أبالي» قال المنذري‏:‏ انظر إلى قوله‏:‏ «علمي وحلمي» يتضح لك بإضافته إليه أنه لم يرد به علم أكثر أهل الزمان المجرّد عن العلم به والإخلاص‏.‏ وفي رواية‏:‏ «لم أجعل حكمتي فيكم إلا لخير أُريده بكم، ادخلوا الجنة بما فيكم»‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «يُوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء»‏.‏

‏{‏إِن الله عزيزٌ غفور‏}‏ هو تعليل لوجوب الخشية؛ لدلالته على عقوبة العصاة؛ لعزته وغلبته، وإثابة أهل الطاعة، والعفو عنهم؛ لعظيم غفرانه، والمعاقب والمثيب حقه أن يُخشى‏.‏

الإشارة‏:‏ العلماء على قسمين‏:‏ علماء بأحكام الله، وعلماء بالله، العلماء بالأحكام يخشون غضبه وعقابه، والعلماء بالله يخشون إبعاده واحتجابه، العلماء بالأحكام يتقون مواطن الآثام، والعلماء بالله يتقون سوء الأدب في حضرة الملك العلاّم‏.‏ فخشية العلماء بالله أرق وأشد‏.‏ العلماء بالله أخذوا علمهم من الله، والعلماء بالأحكام أخذوا علمهم عن الأموات‏.‏ قال الشيخ أبو يزيد رضي الله عنه‏:‏ في علماء أهل الرواية‏:‏ مساكين أخذوا علمهم ميت عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت‏.‏ ه‏.‏

والفرق بين الخوف والرهبة والخشية‏:‏ أن الخوف من العقاب، والرهبة من العتاب، والخشية من الإبعاد‏.‏ قال القشيري‏:‏ والفرق بين الخشية والرهبة‏:‏ أنَّ الرهبة‏:‏ خوفٌ يُوجِبُ هَرَبَ صاحبه، فيجري في تفرقته‏.‏ والخشية إذا حصلت كَبَحَت صاحبها، فيبقى مع الله‏.‏ فقدمت الخشية على الرهبة في الجملة، والخوف قضية الإيمان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 175‏]‏‏.‏ والخشية قضية العلم والهيبة‏.‏ ه‏.‏ ثم قال‏:‏ العالم يخاف تقصيره في حقِّ ربه، والعارف يخشى من سوء أدبه وترْك احترامٍ، وانبساط في غير وقت، بإطلاق لَفْظٍ، أو تَرخِيص بِترْكِ الأَوْلى‏.‏ ه‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ الخوف عموم، والخشية خصوص‏.‏ وقد قرن سبحانه الخشية بالعلم، أي‏:‏ العلم بالله وجلاله وقدره وربوبيته وعبوديته له‏.‏ وحقيقة الخشية‏:‏ وقوع إجلال الحق في قلوب العارفين، ممزوجاً بسنا التعظيم، ورؤية الكبرياء والعظمة، ولا يحصل ذلك إلا لمَن شاهد القدم، والأزل، والبقاء، والأبد، فمَن زاد علمه بالله زاد خشية، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا أعرفكم بالله وأخشاكم منه» ه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ قيل يا رسول الله‏:‏ أي الأعمال أفضل‏؟‏ قال‏:‏ «العلم» قيل‏:‏ أيُّ العلم‏؟‏ قال‏:‏ «العلم بالله سبحانه» وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعُه‏؟‏ والله إني لأعلمُكم بالله، وأشدُّكم له خشيةً»‏.‏

ثم قال‏:‏ عن جعفر الصادق‏:‏ العلم أمْرُ تركِ الحرمة في العبادات، وترك الحرمة في الحياء من الحق، وترك الحرمة في متابعة الرسول، وترك الحرمة في خدمة الأولياء الصدّيقين‏.‏ ه‏.‏ ومعنى كلامه‏:‏ أن العلم الحقيقي هو الذي يأمن صاحِبُه من انتهاك حرمة العبادات، ومِن هتْك حرمة الاحتشام من الله ورسوله وأوليائه‏.‏ ومَن أراد من العلماء السلامة من الاغترار بالعلم فليطالع شرح ابن عباد، في قول الحِكَم‏:‏ «العلم إن قارنته الخشية فلك، وإلا، فعليك»‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ‏(‏29‏)‏ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏30‏)‏ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏31‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِن الذين يتلون كتابَ الله‏}‏ أي‏:‏ يُداومون على تلاوة القرآن ‏{‏وأقاموا الصلاةَ‏}‏ أتقنوها في أوقاتها، ‏{‏وأنفقوا مما رزقناهم‏}‏ فرضاً ونفلاً ‏{‏سراً وعلانيةً‏}‏ مسرّين النفل، ومعلنين الفرض، ولم يقنعوا بتلاوته عن العمل به‏.‏ وخبر «إن»‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏يرجُونَ تجارةً لن تبور‏}‏ لن تكسد، وهو ثواب أعمالهم، يعني‏:‏ يطلبون تجارة ينتفي عنها الكسد، وتنفق عند الله‏.‏

‏{‏ليُوَفّيَهم‏}‏ متعلق ب «تبور»، أي‏:‏ ليوفيَهم بإنفاقها عند الله ‏{‏أُجُورهم‏}‏ ثواب أعمالهم ‏{‏ويَزيدَهُم من فضله‏}‏ بتفسيح القبور، أو‏:‏ تشفيعهم في أهلهم، ومَنْ أحسن إليهم، أو‏:‏ تضعيف حسناتهم، أو‏:‏ بتحقيق وعد لقائه‏.‏

أخرج ابن أبي شيبة عن بريدة، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة، حين ينشق عنه القبر، كالرجل الشاحب، يقول له‏:‏ هل تعرفني‏؟‏ فيقول‏:‏ ما أعرفك، فيقول‏:‏ أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلتك، فإنَّ كل تاجر وراء تجارته‏.‏ قال‏:‏ فيُعطى المُلك بيمينه، والخُلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويُكسى والداه حُلَّتين، لا تُقوّم لهما الدنيا، فيقولان‏:‏ بِمَ كُسِينَا هذا‏؟‏ فيقال لهما‏:‏ بأخْذِ وَلَدِكُما القرآنَ‏.‏ ثم يقال له‏:‏ اقرأ، واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ»‏.‏

وذُكر في بعض الأخبار‏:‏ أن حملة القرآن يُحشرون يوم القيامة على كثبان المسك، وأنوارُ وجوههم تغشى النظار، فإذا أتوا إلى الصراط تلقتهم الملائكة؛ الذين وُكلوا بحملة القرآن، فتأخذ بأيديهم، وتُوضع التيجان على رؤوسهم، والحُلل على أجسادهم، وتُقرب إليهم خيل من نور الجنة، عليها سُرُج المسك الأذفر، ألجمتُها من اللؤلؤ والياقوت، فيركبونها، وتطير بهم على الصراط، ويجوز في شفاعة كل واحد منهم مائة ألف ممن استوجب النار، وينادي مناد‏:‏ هؤلاء أحباء الله، الذين قرأوا كتاب الله، وعَمِلوا به، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏.‏ ه‏.‏

‏{‏إِنه غفور شكور‏}‏ غفور لهفواتهم، شكور لأعمالهم، يُعطي الجزيل، على العمل القليل‏.‏

‏{‏والذي أوحينا إليك مِن الكتاب‏}‏ أي‏:‏ القرآن، و«مِن»‏:‏ للتبيين، ‏{‏هو الحقُّ‏}‏ لا مرية فيه، ‏{‏مصدّقاً لما بين يديه‏}‏ لما تقدمه من الكتب، ‏{‏إِن الله بعباده لخبير بصير‏}‏ عالم بالظواهر والبواطن، فعلِمَك وأبصر أحوالك، ورآك أهلاً لأن يُوحي إليك هذا الكتاب المعجز، الذي هو عِيار على سائر الكتب‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما ورد في فضل أهل القرآن، فالمراد به في حق مَن عَمِلَ به، وأخلص في قراءته، وحافظ على حدوده، ورعاه حق رعايته‏.‏ وقد ورد فيمن لم يعمل به، أو قرأه لغير الله، وعيد كبير، وورد أنهم أول مَن يدخل جهنم‏.‏ قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي، بعد ذكر الحديثين في فضل حامل القرآن‏:‏ وهذا مقيد بالعمل، أي‏:‏ فإنَّ منزلتك عند آخر آية مما عملتَ، لا مما تلوتَ وخالفتَ بعملك؛ لأنه لو كان كذلك لانخرقت أصول الدين، ويؤدي إلى أن مَن حفظ سرد القرآن اليوم، يكون أفضل من كثير من الصحابة الأخيار، والصالحين الأبرار؛ فإن كثيراً من خيارهم مات قبل حفظ جميعه‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 35‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏32‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏33‏)‏ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ثم أورثنا الكتابَ‏}‏ أي‏:‏ أوحينا إليك القرآن، وأورثناه مَنْ بعدَك، أي‏:‏ حكمنا بتوريثه ‏{‏الذين اصطفينا من عبادنا‏}‏ وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين، وتابعيهم، ومَن بعدهم إلى يوم الدين؛ لأنَّ الله اصطفاهم على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطاً؛ ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بالانتساب إلى أكرم رسله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ الكتاب هنا يراد به معاني القرآن وأحكامه وعقائده، فكأن الله تعالى أعطى أمة محمد القرآن، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة قبله، فكأنه وَرَّث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها‏.‏ ه‏.‏

ثم رتَّبهم مراتب، فقال‏:‏ ‏{‏فمنهم ظالم لنفسه‏}‏ بالتقصير في العمل به، وهو المرجأ لأمر الله، ‏{‏ومنهم مقتصدٌ‏}‏ وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ‏{‏ومنهم سابق بالخيرات‏}‏ بأن جمع بين علمه والعمل به، وإرشاد العباد إلى اتباعه‏.‏ وهذا أوفق بالحديث، فقد رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر بعد قراءة هذه الآية‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة، والظالمُ يُحبس، حتى يظن أنه لن ينجو، ثم تناله الرحمة، فيدخل الجنة» رواه أبو الدرداء‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ السابق، المخلص، والمقتصد‏:‏ المرائي، والظالم‏:‏ الكافر النعمة غير الجاحد له، لأنه حَكَمَ للثلاثة بدخول الجنة‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ الظالم‏:‏ صاحب الكبائر، والمقتصد‏:‏ صاحب الصغائر، والسابق‏:‏ المجتنب لهما‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الظالم‏:‏ مَن رجحت سيئاته، والسابق‏:‏ مَن رجحت حسناته، والمقتصد‏:‏ مَن استوت حسناته وسيئاته‏.‏ وسئل أبو يوسف عن هذه الآية فقال‏:‏ كلهم مؤمنون‏.‏ وأما صفة الكفار فبعد هذا، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وأما الطبقات الثلاث فهم من الذين اصطفى من عباده؛ لأنه قال‏:‏ فمنهم، ومنهم، ومنهم، والكل راجع إلى قوله‏:‏ ‏{‏الذين اصطفينا من عبادنا‏}‏ فهم أهلُ الإيمان، وعليه الجمهور‏.‏

وإنما قدّم الظالم للإيذان بكثرتهم، وأنّ المقتصد‏:‏ قليلٌ بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل‏.‏ وقال ابن عطاء‏:‏ إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قدّمه ليعرّفه أن ذنبه لا يبعده من ربِّه‏.‏ وقيل‏:‏ لأن أول الأحوال معصية، ثم توبة، ثم استقامة‏.‏ وقال سهل‏:‏ السابق‏:‏ العالم، والمقتصد‏:‏ المتعلم، والظالم‏:‏ الجاهل‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ السابق‏:‏ الذي اشتغل بمعاده، والمقتصد‏:‏ الذي اشتغل بمعاشه ومعاده، والظالم‏:‏ الذي اشتغل بمعاشه عن معاده‏.‏ وقيل‏:‏ الظالم الذي يعبده على الغفلة والعادة، والمقتصد‏:‏ الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق‏:‏ الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق‏.‏

وقيل‏:‏ الظالم‏:‏ مَن أخذ الدنيا حلالاً وحراماً، والمقتصد‏:‏ المجتهد ألا يأخذها إلا من حلال، والسابق‏:‏ مَن أعرض عنها جملة‏.‏

وقيل‏:‏ الظالم‏:‏ طالب الدنيا، والمقتصد‏:‏ طالب الآخرة، والسابق‏:‏ طالب الحق لا يبغي به بدلاً‏.‏ جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه‏.‏ وقال عكرمة والحسن وقتادة‏:‏ الأقسام الثلاثة في جميع العباد؛ فالظالم لنفسه‏:‏ الكافر، والمقتصد‏:‏ المؤمن العاصي، والسابق‏:‏ التقي على الإطلاق‏.‏ وقالوا هذه الآية نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 7‏]‏ والتحقيق ما تقدّم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بإِذْنِ الله‏}‏ أي‏:‏ بأمره، أو‏:‏ بتوفيقه وهدايته ‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ إيراث الكتاب والاصطفائية‏.‏ أو السبق إلى الخيرات ‏{‏هو الفضلُ الكبيرُ‏}‏ الذي لا أكبر منه، وهو ‏{‏جناتُ عَدْنٍ يدخلونها‏}‏ أي‏:‏ الفرق الثلاث؛ لأنها ميراث، والعاق والبار في الميراث سواء، إذا كانوا مقرين في النسب‏.‏ وقرأ أبو عمرو بالبناء للمفعول‏.‏ ‏{‏يُحلَّون فيها من أساورَ‏}‏ جمع أَسورة، جمع سوار، ‏{‏من ذَهَبٍ ولؤلؤاً‏}‏ أي‏:‏ من ذهب مرصَّع باللؤلؤ‏.‏ وقرأ نافع بالنصب، عطف على محل أساور، أي‏:‏ يحلون أساور ولؤلؤاً‏.‏ ‏{‏ولباسُهُم فيها حريرٌ‏}‏ لِمَا فيه من اللذة واليونة والزينة‏.‏

‏{‏وقالوا‏}‏ بعد دخولهم الجنة‏:‏ ‏{‏الحمدُ لله الذي أذْهَبَ عنا الحزَن‏}‏ خوف النار، أو‏:‏ خوف الموت، أو‏:‏ الخاتمة، أو‏:‏ هَم الرزق‏.‏ والتحقيق‏:‏ أنه يعم جميع الأحزان والهموم، دنيوية أو أخروية، وعن ابن عمر‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة، في قبورهم، ولا في محشرهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم، وهم ينفضون التراب عن وجوههم، فيقولون‏:‏ الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» ‏{‏إِنَّ ربنا لغفور شكور‏}‏ يغفر الجنايات، وإن كثرت، ويقبل الطاعات، ويشكر عاملها، وإن قلَّت‏.‏ ‏{‏الذي أحللنا دارَ المُقَامة‏}‏ أي‏:‏ دار الإقامة لا نبرح عنها ولا نُفارقها‏.‏ يقال‏:‏ أقمت إقامة ومقاماً ومقامة، ‏{‏من فضلِهِ‏}‏ أي‏:‏ من عطائه وإفضاله، لا باستحقاق أعمالنا، ‏{‏لا يمسنا فيها نَصَبٌ‏}‏ تعب ومشقة ‏{‏ولا يمسنا فيها لُغُوبٌ‏}‏ إعياء وكَلَلَ من التعب، وفترة؛ إذ لا تكليف فيها ولا كد‏.‏ نفى عنهم أولاً التعب والمشقة، وثانياً ما يتبعه من الإعياء والملل‏.‏

وأخرج البيهقي‏:‏ أن رجلاً قال يا رسول الله‏:‏ إن النوم مما يُقِرُّ الله به أعيننا، فهل في الجنة من نوم‏؟‏ فقال‏:‏ «إن النوم شريك الموت- أو أخو الموت وإن أهل الجنة لا ينامون أو‏:‏ ليس في الجنة موت» وفي رواية أخرى، قال‏:‏ فما راحتهم‏؟‏ قال‏:‏ «ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة»، فالنوم ينشأ من نصب الأبدان، ومِن ثِقل الطعام، وكلاهما منتفيان في الجنة‏.‏

قال الضحاك‏:‏ إذا دخل أهل الجنة الجنة، استقبلهم الولدان والخدم، كأنهم اللؤلؤ المكنون، فيبعث الله ملَكاً من الملائكة، معه هدية من رب العالمين، وكسوة من كسوة الجنة، فيلبسه، فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك‏:‏ كما أنت، فيقف، ومعه عشرة خواتم، فيضعها في أصابعه، مكتوب‏:‏ طبتم فادخلوها خالدين، وفي الثانية‏:‏ ادخلوها بسلام، ذلك يوم الخلود، وفي الثالثة‏:‏ رُفعت عنكم الأحزان والهموم، وفي الرابعة‏:‏ وزوجناهم بحور عين، وفي الخامسة‏:‏ ادخلوها بسلام آمنين، وفي السادسة‏:‏ إني جزيتهم اليوم بما صبروا، وفي السابعة‏:‏ أنهم هم الفائزون‏.‏

وفي الثامنة‏:‏ صرتم آمنين لا تخافون أبداً، وفي التاسعة‏:‏ رفقتم النبيين والصديقين والشهداء، وفي العاشرة‏:‏ سكنتم في جوار مَن لا يؤذي الجيران‏.‏ فلما دخلوا قالوا‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى‏:‏ ‏{‏لغوب‏}‏‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ قال الورتجبي‏:‏ الاصطفائية تقدمت الوراثة؛ لمحبته ومشاهدته، ثم خاطبهم بما له عندهم وما لهم عنده‏.‏ وهذا الميراث الذي أورثهم من جهة نسب معرفتهم به، واصطفائيته إياهم، وهو محل القرب والانبساط، لذلك قال‏:‏ ‏{‏ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا‏}‏ ثم قسمهم على ثلاثة أقسام‏:‏ ظالم، ومقتصد، وسابق‏.‏ والحمد لله الذي جعل الظالم من أهل الاصطفائية‏.‏ ثم قال‏:‏ فالظالم عندي والله أعلم الذي وازى القدم بشرط إرادة حمل وارد جميع الذات والصفات، وطلب كنه الأزلية بنعت إدراكه، فأي ظالم أعظم منه‏؟‏ إذ طلب شيئاً مستحيلاً، ألا ترى كيف وصف سبحانه آدم بهذا الظلم بقوله‏:‏ ‏{‏وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏، وهذا من كمال شوقه إلى حقيقة الحق، وكمال عشقه، ومحبة جلاله‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا النوع من المتوجهين غلب عليه سُكْر المحبة، ودهش العشق، فادعى قوة الربوبية، وطلب إدراك الألوهية، ونسي ضعف عبوديته، فكان ظالماً لنفسه، من هذا المعنى؛ إذ العبودية لا تطيق إدراك كنه الربوبية‏.‏ ولو أنه طلب الوصول إليه من جهة فقره، وضعفه، لكان مقتصداً، ولو أنه طلب الوصول إلى الله بالله لكان سابقاً‏.‏ فالأقسام الثلاثة تجري في المتوجهين؛ فالظالم لنفسه‏:‏ مَن غلب سُكْره على صحوه في بدايته، والمقتصد مَن غلب صحوه على سُكْره في بداية سيره، والسابق مَن اعتدل سُكره مع صحوه في نهايته أو سيره‏.‏

أو الظالم‏:‏ السالك المحض، والمقتصد‏:‏ المجذوب المحض، والسابق‏:‏ الجامع بينهما؛ إذ هو الذي يصلح للتربية‏.‏ أو الظالم‏:‏ الذي ظاهره خيرٌ من باطنه، والمقتصد‏:‏ الذي استوى ظاهره وباطنه، والسابق‏:‏ هو الذي باطنه خير من ظاهره‏.‏

وعن عليّ كرّم الله وجهه‏:‏ الظالم‏:‏ الآخذ بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، والمقتصد‏:‏ الآخذ بأقواله وأفعاله، والسابق‏:‏ الآخذ بأقواله وأفعاله وأخلاقه‏.‏ وقال القشيري‏:‏ ويقال الظالم‏:‏ مَن غلبت زلاَّته، والمقتصد‏:‏ مَن استوت حالاته، والسابقُ‏:‏ مَن زادت حسناته‏.‏ أو‏:‏ الظالمُ‏:‏ مَنْ زهد في دنياه، والمقتصدُ‏:‏ مَن رغب في عقباه، والسابق‏:‏ مَن آثر على الدارين مولاه‏.‏ أو‏:‏ الظالم مَن نَجَمَ كوكبُ عقله، والمقتصد‏:‏ مَن طَلَعَ بدرُ عِلْمه، والسابق‏:‏ مَن ذَرَّت شمسُ معرفته‏.‏ أو‏:‏ الظالم‏:‏ مَن طلبه، والمقتصد‏:‏ مَن وجده، والسابق‏:‏ مَن بقي معه‏.‏ أو‏:‏ الظالم‏:‏ مَن ترك الزلة، والمقتصد‏:‏ مَن ترك الغفلة، والسابق‏:‏ مَن ترك العلاقة‏.‏

أو‏:‏ الظالم‏:‏ مَن جاد بنفسه، والمقتصد‏:‏ مَن لم يبخل بقلبه، والسابق‏:‏ مَن جاد بروحه‏.‏ أو‏:‏ الظالم‏:‏ مَن له علم اليقين، والمقتصد‏:‏ مَن له عين اليقين، والسابق‏:‏ مَن له حق اليقين‏.‏ أو‏:‏ الظالم‏:‏ بترك الحرام، والمقتصد‏:‏ بترك الشُّبهة، والسابق‏:‏ بترك الفضل في الجملة‏.‏

أو‏:‏ الظالم‏:‏ صاحب سخاء، والمقتصد‏:‏ صاحب جود، والسابق‏:‏ صاحب إيثار‏.‏ أو‏:‏ الظالم‏:‏ صاحب رجاء، والمقتصد‏:‏ صاحب بسط، والسابق‏:‏ صاحب أُنس‏.‏ أو‏:‏ الظالم‏:‏ صاحب خوف، والمقتصد‏:‏ صاحب خشية، والسابق‏:‏ صاحب هيبة‏.‏ أو‏:‏ الظالم له المغفرة، والمقتصد‏:‏ له الرحمة، والسابق‏:‏ له القُربة، أو‏:‏ الظالم‏:‏ طالب النجاة، والمقتصد‏:‏ طالب الدرجات، والسابق‏:‏ طالب المناجاة‏.‏ أو‏:‏ الظالم‏:‏ أمن من العقوبة، والمقتصد‏:‏ طالب المثوبة، والسابق‏:‏ متحقق بالقربة‏.‏ أو‏:‏ الظالم‏:‏ صاحب التوكُّل، والمقتصد‏:‏ صاحب التسليم، والسابق‏:‏ صاحب التفويض، أو‏:‏ الظالم‏:‏ صاحب تواجد، والمقتصد‏:‏ صاحب وجد، والسابق‏:‏ صاحب وجود غير محجوب عنه البتة‏.‏ أو‏:‏ الظالم‏:‏ مجذوب إلى فعله، والمقصد مكاشفٌ بوصفه، والسابق‏:‏ مستهلك في حقه، الذي هو وُجُودُه‏.‏ أو‏:‏ الظالم‏:‏ صاحب المحاضرة، والمقتصد‏:‏ صاحب المكاشفة، والسابق‏:‏ صاحب المشاهدة‏.‏ وبعضهم قال‏:‏ يراه الظالم في الآخرة في كل جمعة، والمقتصد‏:‏ في كل يوم مرة، والسابق‏:‏ غير محجوبٍ عنه أَلْبتة‏.‏ ه باختصار‏.‏

والتحقيق‏:‏ أن الأقسام الثلاثة تجري في كل من العارفين، والسائرين، والعلماء، والعُبّاد، والزهّاد، والصالحين؛ إذ كل فن له بداية ووسط ونهاية‏.‏ ذلك السبق إلى الله هو الفضل الكبير، جنات المعارف يدخلونها، يُحلَّون فيها من أساور من ذهب، وهي الأحوال، ولُؤلؤاً، وهي المقامات، ولباسهم فيها حرير، وهي خالص أعمال الشريعة ولُبها‏.‏ وقالوا‏:‏ الحمد لله الذي أذهب عنا الحزَن؛ إذ لا حزن مع العيان، ولا أغيار مع الأنوار، ولا أكدار مع الأسرار، ما تجده القلوب من الأحزان فَلِمَا مُنعت من العيان‏.‏ ولابن الفارض رضي الله عنه في وصف الخمرة‏:‏

وإن خَطَرتْ يوماً على خاطرِ امرىءٍ *** أقامتْ بها الأفراحُ وارْتحَلَ الهَمُّ

وقال أيضاً‏:‏

فما سَكَنَتْ والهمَّ يوماً بموضِعٍ، *** كذلك لم يَسْكُنْ مع النغم الغَمُّ

إِنَّ ربنا لغفور بتغطية العيوب، شكور بكشف الغيوب، الذي أحلّنا دار المُقامة، هي التمكين في الحضرة، بفضله، لا بحول منا ولا قوة، لا يمسنا فيها نصب‏.‏ قال القشيري‏:‏ إذا أرادوا أن يَرَوْا مولاهم لا يحتاجون إلى قَطْعِ مسافةٍ، بل هم في غُرَفِهم يشاهدون مولاهم، ويلقون فيها تحيةَ وسلاماً، وإذا رأوه لا يحتاجون إلى تحديق مُقلةٍ من جهةٍ، كما هم يَرَوْنه بلا كيفية ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ‏(‏36‏)‏ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «فيموتوا»‏:‏ جواب النفي‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا لهم نارُ جهنَّمَ‏}‏ يُخلدون فيها، ‏{‏لا يُقْضَى عليهم فيموتوا‏}‏ أي‏:‏ لا يحكم بموت ثان فيستريحوا، ‏{‏ولا يُخفف عنهم من عذابها‏}‏ ساعة، بل كلما خبت زِيد إسعارها، وهذا مثل قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 75‏]‏، وذكر عياض انعقاد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يُثابون عليها‏.‏ ولا تخفيف عذاب‏.‏ وقد ورد في الصحيح سؤال عائشة عن ابن جدعان، وأنه كان يصل الرحم، ويطعم المساكين، فهل ذلك نافعُه، فقال عليه السلام‏:‏ «لا، فإنه لم يقل يوماً‏:‏ رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» ثم قال عياض‏:‏ ولكن بعضهم يكون أشد عذاباً، بحسب جرائمهم‏.‏

وذكر أبو بكر البيهقي‏:‏ أنه يجوز أن يراد بما ورد في الآيات والأخبار من بطلان خيرات الكفار‏:‏ أنهم لا يتخلصون بها من النار، ولكن يُخفف عنهم ما يستوجبونه بجناية سوى الكفر، ودافعه المازري‏.‏ قال شارح الصغاني بعد هذا النقل‏:‏ وعلى ما قاله عياض، فما ورد في أبي طالب من النفع بشفاعته صلى الله عليه وسلم، بسبب ذبِّه عنه ونصرته له، مختص به‏.‏ ه‏.‏ ويرد عليه ما ورد من التخفيف في حاتم بكرمه، فالظاهر ما قاله البيهقي‏.‏ والله أعلم‏.‏ ومثل ما قاله في أبي طالب، قيل في انتفاع أبي لهب بعتق ثويبة، كما في الصحيح‏.‏

والحاصل‏:‏ أن التخفيف يقع في بعض الكفار، لبره في الدنيا، تفضلاً منه تعالى، لا في مقابلة عملهم؛ لعدم شرط قبوله‏.‏ انظر الحاشية‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الجزاء الفظيع، ‏{‏نجزي كلَّ كفور‏}‏ مبالغ في الكفران ‏{‏وهم يصطرخون فيها‏}‏‏:‏ يستغيثون، فهو يفتعلون، من‏:‏ الصراخ، وهو الصياح بجهد ومشقة‏.‏ فاستعمل في الاستغاثة لجهر صوت المستغيث‏.‏ يقولون‏:‏ ‏{‏ربَّنا أخْرِجنا‏}‏ منها، ورُدنا إلى الدنيا ‏{‏نعملْ صالحاً غير الذي كنا نعملُ‏}‏ فنؤمن بعد الكفر، ونُطيع بعد المعصية‏.‏ فيُجابون بعد قدر عمر الدنيا‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم ما يتذكَّرُ فيه مَن تَذَكَّرَ‏}‏ أي‏:‏ أَوَلَم نعمركم تعميراً يتذكر فيه المتذكر‏.‏ وهو متناول لكل عمر يتمكن منه المكلّف من إصلاح شأنه، والتدبُّر في آياته، وإن قصُر، إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم‏.‏ وقيل‏:‏ هو ثماني عشرة سنة‏.‏ وقيل‏:‏ ما بين العشرين إلى الستين، وقيل‏:‏ أربعون‏.‏ وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب، مسح الشيطان على وجهه‏.‏ وقال‏:‏ وجه لا يُفلح أبداً، وقيل‏:‏ ستون‏.‏ وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «العمر الذي أعذر الله فيه ابن آدم ستون سنة»، وفي البخاري عنه عليه السلام‏:‏ «أعذر الله المرء آخر أجله حتى بلغ ستين سنة»‏.‏

‏{‏وجاءكم النذيرُ‏}‏ أي‏:‏ الرسول عليه السلام، أو‏:‏ الكتاب، وقيل‏:‏ الشيخوخة، وزوال السن، وقيل‏:‏ الشيب‏.‏

قال ابن عزيز‏:‏ وليس هذا شيء؛ لأن الحجة تلحق كل بالغ وإن لم يشب‏.‏ وإن كانت العرب تسمي الشيب النذير‏.‏ ه‏.‏ ولقوله تعالى بعدُ‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم نذير‏}‏ فإنه يتعين كونه الرسول، وهو عطف على معنى‏:‏ ‏{‏أو لم نعمركم‏}‏ لأن لفظه استخبار، كأنه قيل‏:‏ قد عمَّرناكم وجاءكم النذير‏.‏ قال قتادة‏:‏ احتج عليهم بطول العمر، وبالرسول، فانقطعت حجتهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فذُوقوا‏}‏ العذاب ‏{‏فما للظالمين من نصيرٍ‏}‏ يدفع العذاب عنهم‏.‏

الإشارة‏:‏ الذين كفروا بطريق الخصوصية، وأنكروا وجود التربية بالاصطلاح، فبقوا مع نفوسهم، لهم نار القطيعة ولو دخلوا الجنة الحسية، لا يُقضى عليهم فيموتوا، ويرجعوا إلى الاستعداد بدخول الحضرة، ولا يُخفف عنهم من عذاب حجاب الغفلة، بل يزيد الحجاب بتراكم الحظوظ، ونسج الأكنة على القلوب، كذلك نجزي كل كفور وجحود لطريق التربية‏.‏ وهم يصطرخون فيها، بلسان حالهم، قائلين‏:‏ ربنا أخرجنا، ورُدّنا إلى دار الفناء، نعمل صالحاً غير الذي كنا نعملُ، حتى ندخل، كما دخلها أهل العزم واليقظة‏؟‏ فيقال لهم‏:‏ أَوَلَم نُعمركم ما يتذكر فيه مَن تذكر، وجاءكم النذير، مَن ينذركم وبال القطيعة، ويُعرفكم بطريق الحضرة، فأنكرتموه، فذُوقوا وبال القطيعة، فما للظالمين من نصير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏38‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِن الله عالمُ غيبِ السماوات والأرض‏}‏ أي‏:‏ ما غاب فيهما عنكم، ‏{‏إِنه عليم بذاتِ الصدور‏}‏ تعليل لِمَا قبله؛ لأنه إذا عَلِمَ ما في الصدور، وهي أخفى ما يكون، فقد عَلِمَ كل غيب في العالم‏.‏ وذات الصدور‏:‏ مضمراتها ووساوسها‏.‏ وهي تأنيث «ذو» بمعنى‏:‏ صاحب الوساوس والخطرات، تصحب الصدور وتُلازمها في الغالب، أي‏:‏ عليم بما في القلوب، أو بحقائقها، على أن «ذات» بمعنى الحقيقة‏.‏

‏{‏هو الذي جعلكم خلائفَ في الأرض‏}‏ أي‏:‏ جعلكم خلفاء عنه في التصرُّف في الأرض، قد ملككم مقاليد التصرُّف فيها، وسلطكم على ما فيها، وأباح لكم منافعها؛ لتشكروه بالتوحيد والطاعة‏.‏ ‏{‏فمَن كفر‏}‏ منكم، وغمط مثل هذه النعمة السنيّة، ‏{‏فعليه كُفْرُه‏}‏ فوبالُ كفره راجعٌ عليه، وهو مقتُ الله، وخسران الآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزيدُ الكافرين كفرُهُم عند ربهم إلا مَقْتاً‏}‏ وهو أشد البغض، ‏{‏ولا يزيد الكافرين كُفْرُهُم إِلا خساراً‏}‏ هلاكاً وخسراناً‏.‏

الإشارة‏:‏ إن الله عالم بما غاب في سموات الأرواح، من أسرار العلوم والمكاشفات، والاطلاع على أسرار الذات، وأنوار الصفات، وما غاب في أرض النفوس من الموافقات أو المخالفات، إنه عليم بحقائق القلوب، من صفائها وكدرها، وما فيها من اليقين والمعرفة، وضدهما‏.‏

قال القشيري‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله عالمُ غيبِ السماواتِ والأرضِ‏}‏ بإخلاص المخلصين، وصدق الصادقين، ونفاق المنافقين، وجحد الكافرين، ومَن يريد بالناس شرًّا، ومَن يُحْسِن بالله ظَنًّا‏.‏ ه‏.‏

وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي جعلكم خلائف‏}‏ أهل كلِّ عصرٍ خليفة عصر تقدمهم، فَمِنْ قومِ هم أنفسهم جَمال، ومن قوم أراذل وأنذال، والأفاضلُ زمانهم لهم محنة، والأراذلُ هم لزمانهم محنة‏.‏ وحاصل كلامه‏:‏ أن قوماً عرفوا حق الخلافة، فقاموا بحقها، وشكروا الله عليها، بالقيام بطاعته، فكانوا في زمانهم جمالاً لأنفسهم، ولأهل عصرهم، لكنهم لَمَّا تحمّلوا مشاق الطاعات، وترادف الأزمات، كان زمانهم لهم محنة‏.‏ وقوماً لم يعرفوا حق الخلافة، فاشتغلوا بالعصيان، فانتحس الزمان بهم، فكانوا محنة لزمانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «أرأيتم»‏:‏ بمعنى‏:‏ أخبروني، وهي تطلب مفعولين‏:‏ أحدهما منصوب، والآخرُ مُشتمل على استفهام، كقولك‏:‏ أرأيت زيداً ما فعل، فالأول‏:‏ ‏{‏شركاءكم‏}‏ والثاني‏:‏ ‏{‏ماذا خلقوا‏}‏‏.‏ و‏{‏أروني‏}‏‏:‏ اعتراض، فيها تأكيد للكلام وتشديد‏.‏ ويحتمل أن يكون من باب التنازع؛ لأنه توارد على ‏{‏ماذا خلقوا‏}‏‏:‏ ‏{‏أرأيتم‏}‏ و‏{‏أروني‏}‏، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين‏.‏ قاله أبو حيان‏.‏ ولابن عطية وابن عرفة غير هذا، فانظره‏.‏ و«بعضهم»‏:‏ بدل من «الظالمين»‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل لهم أرأيتُمْ شركاءكم‏}‏ أي‏:‏ أخبروني عن آلهتكم التي أشركتموها في العبادة مع الله، ‏{‏الذين تدْعُون‏}‏ أي‏:‏ تعبدونهم ‏{‏من دون الله‏}‏ ما سندكم في عبادتهم‏؟‏ ‏{‏أروني ماذا خَلقوا من الأرض‏}‏ أي‏:‏ جزء من الأرض، استبدُّوا بخلقه حتى استحقُّوا العبادة بسبب ذلك، ‏{‏أم لهم شِرْكٌ في السماوات‏}‏ أي‏:‏ أم لهم مع الله شركة في خَلْق السموات حتى استحقُّوا أن يُعبدوا‏؟‏ بل لا شيء من ذلك، فبطل استحقاقها للعبادة‏.‏ ‏{‏أم آتيناهم كتاباً‏}‏ أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه، ‏{‏فهم على بينةٍ منه‏}‏ فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب‏؟‏ قال ابن عرفة‏:‏ هذا إشارة إلى الدليل السمعي، والأول إشارة إلى الدليل العقلي، فهم لم يستندوا في عبادتهم الأصنام إلى دليل عقلي ولا سمعي، ‏{‏بل إِن يَعِدُ الظالمون‏}‏ أي‏:‏ ما يَعِد الظالمون، وهم الرؤساء ‏{‏بعضُهُم بعضاً إِلا غُروراً‏}‏ باطلاً وتمويهاً، وهو قولهم‏:‏ ‏{‏هَؤُلآَءِ شُفَعَآؤُنَا عِندَ اللهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ لَمَّا نفى أنواع الحجج العقلية والسمعية، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تقرير الأسلاف الأخلاف، والرؤساء الأتباع؛ بأنهم شفعاء عند الله تُقربهم إليه‏.‏ هذا هو التقليد الرديء، والعياذ بالله‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن ركن إلى مخلوق، أو اعتمد عليه، يُتلى عليه‏:‏ ‏{‏أرأيتم شركاءكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وفي الحِكَم‏:‏ «كما لا يقبل العمل المشترك، لا يُحب القلب المشترك‏.‏ العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يُقبل عليه»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِن الله يُمسك السماواتِ والأرضَ أن تزولاَ‏}‏ أي‏:‏ يمنعهما من أن تزولا؛ لأن إمساكهما منع‏.‏ والمشهور عند المنجمين‏:‏ أن السموات هي الأفلاك التي تدور دورة بين الليل والنهار‏.‏ وإنكار ابن يهود على كعب، كما في الثعلبي، تحامل؛ إذ لا يلزم من دورانها عدم إمساكها بالقدرة، وانظر عند قوله‏:‏ ‏{‏وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 38‏]‏ قال القشيري‏:‏ أمسكهما بقدرته، وأتقنهما بحكمته، وزينهما بمشيئته، وخلق أهلهما على موجب قضيته، فلا شبيه في إبقائهما وإمساكهما يُسَاهِمُه، ولا شريك في إيجادهما وإعدامهما يقاسمه‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ولَئِن زَالَتَا‏}‏ على سبيل الفرض، ‏{‏إِنْ أَمْسَكَهُما من أحدٍ من بعده‏}‏ من بعد إمساكه‏.‏ و«من» الأولى‏:‏ مزيدة، لتأكيد النفي، والثانية‏:‏ ابتدائية، ‏{‏إِنه كان حليماً غفوراً‏}‏ غير معاجل بالعقوبة، حيث أمسكهما على مَن يشرك به ويعصيه، وكانتا جديرتين بأن تهدّ هدّاً، كما قال‏:‏ ‏{‏تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 90‏]‏ الآية‏.‏

الإشارة‏:‏ الوجود قائم بين سماء القدرة وأرض الحكمة، بين سماء الأرواح وأرض الأشباح، بين سماء المعاني وأرض الحس، فلو زال أحدهما لاختل نظام الوجود، وبطلت حكمة الحكيم العليم‏.‏ الأول‏:‏ عالم التعريف، والثاني‏:‏ عالم التكليف‏.‏ الأول‏:‏ محل التنزيه، والثاني‏:‏ محل التشبيه، الأول‏:‏ محل أسرار الذات، والثاني‏:‏ محل أنوار الصفات، مع اتحاد المظهر؛ إذ الصفات لا تفارق الموصوف، فافهم‏.‏ وفي بعض الأثر‏:‏ «إن العبد إذا عصى الله استأذنت السماء أن تسقط عليه من فوقه، والأرض أن تخسف من تحته، فيمسكها الله تعالى بحلمه وعفوه، ثم تلى الآية‏:‏ ‏{‏إِن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏كان حليماً غفوراً‏}‏ ه‏.‏ بالمعنى‏.‏

ثم ذكر عناد قريش وعتوهم، تتميماً لقوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا لهم نار جهنم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏42‏)‏ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ‏(‏43‏)‏ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «جهد»‏:‏ نصب على المصدر، أو على الحال‏.‏ و«استكبار» و«مكر»‏:‏ مفعول من أجله أو حال‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وأقسموا بالله جَهْدَ أيمانهم‏}‏ أي‏:‏ إقساماً وثيقاً، أو‏:‏ جاهدين في أيمانهم‏:‏ ‏{‏لئن جاءهم نذير‏}‏ رسول ‏{‏ليكونن أهدى من إحدى الأمم‏}‏ المهتدية، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏أهدى‏}‏ وقوله في سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏ وذلك أن قريشاً قالوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا بلغهم أن أهل الكتاب كذّبوا رسلهم‏:‏ لعن الله اليهود والنصارى، أتتهم الرسل فكذبوهم، فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم، أي‏:‏ من الأمة التي يقال فيها‏:‏ هي أهدى الأمم، تفضيلاً لها على غيرها في الهُدى والاستقامة‏.‏ كما يقال للداهية العظيمة‏:‏ هي أهدى الدواهي‏.‏ فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏{‏ما زادهم إِلا نُفوراً‏}‏ أي‏:‏ ما زادهم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلا تباعداً عن الحق، وهو إسنادٌ مجازيّ؛ إذ لا فاعل غيره‏.‏

‏{‏استكباراً في الأرض ومكرَ السيىء‏}‏ أي‏:‏ ما زادهم إلا تهوُّراً للاستكبار ومكر السيىء‏.‏ أو‏:‏ مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، المكر القبيح، وهو إجماعهم على قتله عليه الصلاة والسلام، وإذاية مَن تبعه‏.‏ وأصل قوله‏:‏ ‏{‏ومكر السيىء‏}‏‏:‏ وأن مكروا المكر السيىء، فحذف الموصوف استغناء بوصفه، ثم أبدل «أن» مع الفعل بالمصدر، ثم أضيف إلى صفته اتساعاً، كصلاة الأولى، ومسجد الجامع‏.‏ ‏{‏ولا يحيق المكرُ السيىء إِلا بأهله‏}‏ أي‏:‏ لا يحيط وينزل المكر السيىء إلا بمَن مكره، وقد حاق بهم يوم بدر‏.‏ وفي المثل‏:‏ مَن حفر حفرة وقع فيها

‏{‏فهل ينظُرون إِلا سُنَّة الأولين‏}‏‏:‏ ما ينتظرون إلا أن ينزل بهم ما نزل بالمكذبين الأولين، من العذاب المستأصل، كما هي سُنَّة الله فيمن كذّب الرسل‏.‏ ‏{‏فلن تجد لسُنة الله تبديلاً، ولن تجد لسُنة الله تحويلاً‏}‏ بيّن أن سُنَّته التي هي الانتقام من مكذِّبي الرسل سُنَّة ماضية، لا يبدلها في ذاتها، ولا يحوّلها عن وقتها، وأنَّ ذلك مفعول لا محالة‏.‏

‏{‏أَوَلَم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم‏}‏ ممن كذَبوا رسلهم، كيف أهلكهم الله ودمرهم، كعاد، وثمود، وقرىء قوم لوط‏.‏ استشهد عليهم بما كانوا يُشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق، من آثار الماضين، وعلامات هلاكهم ودمارهم‏.‏ ‏{‏و‏}‏ قد ‏{‏كانوا أشدَّ منهم قوةً‏}‏ واقتداراً، فلم يتمكنوا من الفرار، ‏{‏وما كان الله ليُعْجِزَه‏}‏ ليسبقه ويفوته ‏{‏من شيءٍ‏}‏ أيَّ شيء كان ‏{‏في السماوات ولا في الأرض إِنه كان عليماً‏}‏ بأحوالهم ‏{‏قديراً‏}‏ على أخذهم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ ترى بعض الناس يقول‏:‏ لئن ظهر شيخ التربية لنكونن أول مَن يدخل معه، فلما ظهر، عاند واستكبر، وربما أنكر ومكر‏.‏

نعوذ بالله من سابق الخذلان‏.‏ قال القشيري‏:‏ ليس لقولهم تحقيق، ولا لضمانهم توثيق، وما يَعدُون من أنفسهم فصريحُ زورٍ، وما يُوهمُون من وِفاقهم فصِرْفُ غرور‏.‏ وكذلك المريد في أول نشاطه، تُمَنِّيه نَفْسُه ما لا يقدر عليه، فربما يعاهد الله، ويؤكد فيه عقداً مع الله، فإذا عَضّتْهُ شهوتُه، وأراد الشيطانُ أن يكذبه، صَرَعه بكيده، وأركسه في كُوةِ غيِّه، وفتنةِ نَفْسه؛ فيسودُّ وجْهُه، ويذهب ماء وجهه‏.‏

ثم قال في قوله‏:‏ ‏{‏أولم يسيروا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏:‏ ما خاب له وليٌّ، وما ربح له عدو، ولا تنال الحقيقةُ بمَن انعكس قَصْدُه، وارتدَ عليه كيدُه، دَمّر على أعدائه تدميراً، وأوسع لأوليائه فضلاً كبيراً‏.‏ ه‏.‏

ثم تمّم قوله‏:‏ ‏{‏إِنه كان حليماً غفوراً‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

يقول الحق جلَ جلاله‏:‏ ‏{‏ولو يُؤاخِذُ اللهُ الناسَ بما كسبوا‏}‏ بما اقترفوا من المعاصي ‏{‏ما ترك على ظهرها‏}‏ على ظهر الأرض؛ لأنه جرى ذكرها في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الأَرْضِ إِنَّهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 44‏]‏، ‏{‏من دابةٍ‏}‏ من نسمة تدبُّ عليها‏.‏ قيل‏:‏ أهل المعاصي فقط من الناس، وقيل‏:‏ من الجن والإنس‏.‏ والمشهور‏:‏ أنه عام في كل ما يدب؛ لأن الكل خُلق للآدمي‏.‏ وعن ابن مسعود‏:‏ ‏(‏إِن الجُعل ليُعذب في جحره بذنب ابن آدم‏)‏، يعني ما يصيبه من القحط، بشؤم معاصيه‏.‏ وقال أبو هرير‏:‏ إن الحبارى لتموت هزالاً في وكرها بظلم الظالم‏.‏ ه‏.‏

قال القشيري‏:‏ لو عَجَّل لهم ما يستوجبونه من الثواب والعقاب، لم تَفِ أعمارُهم القليلةُ، وما اتسعت أفهامُهم القصيرة له، فأخَّرَ ذلك ليوم الحَشْرِ، فإِنَّه طويل، والله على كل شيء قدير، بأمور عباده بصير، وإليه المصير ه وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏ولكن يُؤخرهم إِلى أجَلٍ مسمىً‏}‏ هو يوم القيامة، ‏{‏فإِذا جاء أجَلُهُم‏}‏ أجل جمعهم، ‏{‏فإِن الله كان بعباده بصيراً‏}‏ أي‏:‏ لن يخفى عليه حقيقة أمرهم، وحكمة حكمهم، فيجازيهم على قدر أعمالهم‏.‏

الإشارة‏:‏ تعجيل العقوبة في دار الدنيا للمؤمن إحسان، وتأخيرها لدار الدوام استدراج وخذلان‏.‏ فكل مَن له عناية سابقة؛ عاتبه الله في الدنيا، بمصيبة في بدنه، أو ماله، أو في أهله، ومَن لا عناية له أُخرت عقوباته كلها لدار الجزاء‏.‏ نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه، وبسيدنا محمد نبيه صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه‏.‏

سورة يس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يس ‏(‏1‏)‏ وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏3‏)‏ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يس‏}‏ أيها السيد المفخم، والمجيد المعظم، ‏{‏و‏}‏ حق ‏{‏القرآن الحكيم‏}‏ المحكم ‏{‏إِنك لمن المرْسلين‏}‏ وفي الحديث‏:‏ «إن الله تعالى سمّاني في القرآن بسبعة أسماء‏:‏ محمد، وأحمد، وطه، ويس، والمزّمّل، والمدّثر، وعبد الله»، قيل‏:‏ ولا تصح الاسمية في يس؛ لإجماع القراء السبعة على قراءتها ساكنة، على أنها حروف هجاء محكية، ولو سمي بها لأعربت غير مصروفة، كهابيل وقابيل، ومثلها «طس» و«حم» كما قال الشاعر‏:‏

لما سمى بها السورة *** فهلا تلى حميمَ قبل التكلم

فدلَّ على أنها حروف حال التلاوة‏.‏ نعم قد قُرىء «يسُ» بضم النون، ونصبها، خارج السبعة، وعلى ذلك تخرج بأن اللفظ اسم للسورة، كأنه قال‏:‏ اتل يس، على النصب، وعلى أنها اسم من أسمائه صلى الله عليه وسلم، وتوجه في قراءة الضم على النداء‏.‏ ه‏.‏ قلت والظاهر إنها حروف مختصرة من السيد، على طريق الرمز بين الأحباء، إخفاء عن الرقباء‏.‏

ثم أقسم على رسالته، ردّاً على مَن أنكره بقوله‏:‏ ‏{‏والقرآنِ الحكيمِ‏}‏ أي‏:‏ ذي الحكمة البالغة، أو‏:‏ المحكم الذي لا ينسخه كتاب، أو‏:‏ ذي كلام حكيم، فوصف بصفة المتكلم به، ‏{‏إِنك لَمِنَ المرسلين‏}‏ مِن أعظمهم وأجلِّهم‏.‏ وهو ردٌّ على مَن قال من الكفار‏:‏ ‏{‏لَسْتَ مُرْسَلاً‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏‏.‏ ‏{‏على صراطٍ مستقيمٍ‏}‏ أي‏:‏ كائناً على طريق مستقيم، يوصل مَن سلكه إلى جوار الكريم، فهو حال من المستكن في الجار والمجرور‏.‏ وفائدته‏:‏ وصف الشرع بالاستقامة صريحاً، وإن دلَّ عليه‏:‏ ‏{‏إِنك لمن المرسلين‏}‏ التزاماً، أو‏:‏ خبر ثان لإن‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ يس، معناه‏:‏ يا سيد رقَّاه أشرف المنازل، وإن لم يسم إليه بطرق التأميل، سُنَّة منه سبحانه أنه لا يضع أسراره إلا عند مَن تقاصرت الأوهام عن استحقاقه، ولذلك قَضوا بالعَجَب في استحقاقه، وقالوا‏:‏ كيف آثر يتيم أبي طالب من بين البرية، ولقد كان صلوات الله عليه في سابق اختياره تعالى مقدّماً على الكافة من أشكاله وأضرابه، وفي معناه قيل‏:‏

هذا وإن أصبح في أطمار *** وكان في فقر من اليسار

آثرُ عندي من أخي وجاري *** وصاحب الدرهم والدينار

وصاحب الأمر مع الإكثار *** قال الورتجبي‏:‏ قيل‏:‏ الياء‏:‏ الياء تُشير إلى يوم الميثاق، والسين تُشير إلى سره مع الأحباب، فقال‏:‏ بحق يوم الميثاق، وسرى مع الأحباب، وبالقرآن الحكيم، إنك لَمن المرسلين يا محمد ه‏.‏

وجاء‏:‏ «إن قلب القرآن يس، وقلبه‏:‏ ‏{‏سلام قولاً من رب رحيم‏}‏» قلت‏:‏ وهو إشارة إلى سر القربة، الداعي إليه القرآن، وعليه مداره، وحاصله‏:‏ تسليم الله على عباده كِفاحاً، لحياتهم به، وأنسهم بحديثه وسره‏.‏ وقيل‏:‏ لأن فيه تقرير أصول الدين‏.‏ قاله في الحاشية الفاسية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 11‏]‏

‏{‏تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏5‏)‏ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ‏(‏6‏)‏ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏7‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ‏(‏8‏)‏ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «تنزيل»‏:‏ خبر، أي‏:‏ هو تنزيل‏.‏ ومَن نصبه فمصدر، أي‏:‏ نُزل تنزيل، أو‏:‏ اقرأ تنزيل، وقرىء بالجر، بدل من القرآن‏.‏ و«ما أُنذر»‏:‏ نعت لقوم‏.‏ و«ما»‏:‏ نفي، عند الجمهور، أو‏:‏ موصولة مفعولاً ثانياً لتُنذر، أي‏:‏ العذاب الذي أُنْذرَه آباؤهم، أو‏:‏ مصدرية، أي‏:‏ لتنذر قوماً إنذاراً مثل إنذار آبائهم‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ هذا أو هو ‏{‏تنزيل العزيز‏}‏ أي‏:‏ الغالب القاهر بفصاحة نظم كتابه أوهامَ ذوي العناد، ‏{‏الرحيم‏}‏ الجاذب بلطافة معنى خطابه أفهامَ ذوي الرشاد‏.‏ أنزلناه ‏{‏لتُنذر‏}‏ به ‏{‏قوماً‏}‏ أو‏:‏ أرسلناك لتنذر قوماً غافلين، ‏{‏وما أُنذر آباؤهم‏}‏ أي‏:‏ غير منذر آباؤهم، كقوله‏:‏ ‏{‏لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 3‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومَآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 44‏]‏ أو‏:‏ لتُخوف قوماً العذاب الذي أُنذر به آباؤهم، لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏‏.‏ أو‏:‏ لتنذر قوماً إنذار آبائهم، وهو ضعيف؛ إذ لم يتقدم لهم إنذار‏.‏ ‏{‏فهم غافلون‏}‏ إن جعلت «ما» نافية فهو متعلق بالنفي، أي‏:‏ لم ينذروا فهم غافلون، وإلا فهو متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏إنك لمن المرسلين‏}‏ لتنذر قوماً، كقولك‏:‏ أرسلته إلى فلان لينذره فهو غافل‏.‏

‏{‏لقد حقَّ القولُ على أكثرهم فهم لا يؤمنون‏}‏ يعني قوله‏:‏ ‏{‏لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةٍ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏ أي‏:‏ تعلق بهم هذا القول، وثبت عليهم ووجب؛ لأنه عَلِمَ أنهم يموتون على الكفر‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ إنذارهم مع إخباره بأنهم لا يُؤمنون ليس من تكليف ما لا يطاق عقلاً وعادة، وما لا يطاق من جهة السمع يصح التكليف به، اعتباراً بظاهر الأمر، وإلا لزم أن تكون التكاليف كلها لا تطاق، ولا فائدة فيها؛ لأنَّ المكلفين قسمان‏:‏ فمَن عَلِمَ تعالى أنه لا يؤمن فلا فائدة في أمره بالإيمان؛ إذ لا يطيق عدمه‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ الحكمة تقتضي تكليفهم؛ لتقوم الحجة عليهم أو لهم، والقدرة تقتضي عذرهم‏.‏ والنظر في هذه الدار التي هي دار التكليف للحكمة لا للقدرة‏.‏

ثم مثّل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارْعوائهم، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، وكالحاصلين بين سدّين، لا ينظرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم، بقوله‏:‏ ‏{‏إِنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقانِ‏}‏ معناه‏:‏ فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها، ‏{‏فهم مُقمَحُون‏}‏ مرفوعة رؤوسهم إلى فوق، يقال‏:‏ قمح البعيرَ فهو قامح؛ إذا روي فرفع رأسه، وهذا لأنّ طوق الغلّ الذي في عُنُق المغلول، يكون في ملتقى طرفيه، تحت الذقن، حلقة، فلا تخليه يطأطىء رأسه، فلا يزال مقمحاً‏.‏ والغل‏:‏ ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتعذيب‏.‏

والأذقان والذقن‏:‏ مجتمع اللحيين‏.‏ وقيل‏:‏ «فهي» أي‏:‏ الأيدي‏.‏ وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين‏.‏ وفي مصحف أُبي‏:‏ «إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً» وفي بعضها‏:‏ «في أيديهم فهي إلى الأذقان فهم مقمحون»‏.‏

‏{‏وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا‏}‏ بفتح السين وضمها قيل‏:‏ ما كان من عمل الناس فبالفتح، وما كان من خلق الله، كالجبل ونحوه، فبالضمّ، أي‏:‏ جعلنا الموانع والعوائق محيطة بهم، فهم محبوسون في مطمورة الجهالة، ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل، ‏{‏فأغشيناهم‏}‏ أي‏:‏ فأغشينا أبصارهم، أي‏:‏ غطيناها وجعلنا عليها غشاوة، ‏{‏فهم لا يُبصرون‏}‏ الحق والرشاد‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في بني مخزوم، وذلك أن أبا جهل حلف‏:‏ لئن رأى محمداً يصلّي ليرضخنَّ رأسه، فأتاه وهو يصلّي، ومعه حجر، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه، ولزق الحجرُ بيده، حتى فكّوه عنها بجَهد، فرجع إلى قومه، فأخبرهم، فقال مخزوميّ‏:‏ أنا أقتله بهذا الحجر، فذهب، فأعمى الله بصره، فلم يَر النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وسمع قوله، فرجع إلى أصحابه، ولم يرهم حتى نادوه‏.‏ وقيل‏:‏ هي ذكر حالهم في الآخرة، وحين يدخلون النار، فتكون حقيقة‏.‏ فالأغلال في أعناقهم، والنار محيطة بهم‏.‏ والأول أرجح وأنسب؛ لقوله‏:‏ ‏{‏وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون‏}‏ أي‏:‏ الإنذار وتركه في حقهم سواء؛ إذ لا هادي لمَن أضلّه الله‏.‏

رُوي أن عمر بن عبد العزيز قرأ الآية في غيلان القدريّ، فقال غيلان‏:‏ كأني لم أقرأها قط، أُشهِدك أني تائب عن قولي في القدر‏.‏ فقال عمر‏:‏ اللهم إِنْ صَدَقَ فتُبْ عليه، وإن كذب فسلّطْ عليه مَن لا يرحمه، فأخذه هشام بن عبد الملك من غده، فقطع يديه ورجليه، وصلبه على باب دمشق‏.‏

ثم ذكر مَن ينفعه الإنذار، فقال‏:‏ ‏{‏إِنما تُنْذِرُ مَن اتَّبَعَ الذِّكْرَ‏}‏ أي‏:‏ إنما ينتفع بإنذارك مَن تبع القرآن ‏{‏وخَشِيَ الرحمن بالغيب‏}‏ وخاف عقاب الله قبل أن يراه، أو‏:‏ تقول‏:‏ نُزِّل وجود الإنذار لمَن لم ينتفع به منزلة العدم، فمَن لم يُؤمن كأنه لم يُنذر، وإنما الإنذار لمَن انتفع به‏.‏ ‏{‏فَبَشِّرْهُ بمغفرةٍ‏}‏ وهو العفو عن ذنوبه، ‏{‏وأجرٍ كريمٍ‏}‏ الجنة وما فيها‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن تصدّى لوعظ الناس، وإنذارهم، على فترة من الأولياء، يقال له‏:‏ لِتُنذر قوماً ما أُنذر آباؤهم فهم غافلون‏.‏ ويقال في حق مَن سبق له الإبعاد عن طريق أهل الرشاد‏:‏ لقد حقَّ القولُ على أكثرهم، فهم لا يؤمنون‏.‏ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً تمنعهم من حط رؤوسهم لأولياء زمانهم، وجعلنا من بين أيديهم سدًّا‏:‏ موانع تمنعهم من النهوض إلى الله، ومن خلفهم سدّاً‏:‏ علائق تردهم عن حضرة الله، فأغشيناهم‏:‏ غطَّينا أعين بصيرتهم، فلا يرون خصوصية أحد ممن يدلّ على الله، فهم لا يُبصرون داعياً، ولا يُلبون منادياً، فالإنذار وعدمه في حقهم سواء، ومعالجة دائهم عناء‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ سد ما خلفهم سد قهر الأزل، وسد ما بين أيديهم شقاوة الأبد، فبنفسه منعهم من نفسه‏.‏ لا جرم أنهم في غشاوة القسوة، لا يبصرونه أبداً‏.‏ ه‏.‏ إنما ينتفع بتذكير الداعين إلى الله مَن خشع قلبه بذكر الله، واشتاقت رُوحه إلى لقاء الله، فبشِّره بمغفرة لذنوبه، وتغطية لعيوبه، وأجر كريم، وهو النظر إلى وجه الله العظيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّا نحنُ نحيي الموتَى‏}‏ أي‏:‏ نبعثهم بعد مماتهم، أو‏:‏ نُخرجهم من الشرك إلى الإيمان‏.‏ قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي‏:‏ لَمَّا أمر بالتبشير بالمغفرة، والأجر الكريم، لمَن انتفع بالإنذار، أعلم بحكم مَن لم يؤمن، ولم ينتفع بالإنذار، وأنه يبعثهم، وإليه حكمهم، كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَستَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 36‏]‏ ه‏.‏

‏{‏ونكتُبُ ما قدّموا‏}‏ ما أسلفوا من الأعمال الصالحات وغيرها، ‏{‏وآثارَهُمْ‏}‏ ما تركوه، بعدهم من آثار حسنة، كعِلْم علَّموه، أو كتاب صنَّفوه، أو حبس حبسوه، أو رباط أو مسجد صنعوه‏.‏ أو آثار سيئة، كبدعة ابتدعوها في الإسلام‏.‏ ونحوه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُنَبَّؤُاْ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 13‏]‏ أي‏:‏ قدّم من عمله وأخّر من آثاره‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً، فعمل بها من بعده، كان له أجرُها ومثل أجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن يَنْقُص من أجورِهِمْ شيءٌ‏.‏ ومَن سَنَّ في الإسلام سُنَّة سيئةً فعليه وزرها، ووزرُ مَن عمل بها، من غير أن يَنْقُص من أوزارهم شيءٌ» وفي خبر آخر‏:‏ «سبع تجري على العبد بعد موته‏:‏ مَن غرس غرساً، أو حفر بئراً، أو أجرى نهراً، أو علَّمَ علماً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مصحفاً، أو ولداً صالحاً» انظر المنذري‏.‏ وهذا كله داخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآثارهم‏}‏ قيل‏:‏ آثارهم‏:‏ خطاهم إلى المساجد، للجمعة وغيرها‏.‏

‏{‏وكل شيءٍ أحصيناه‏}‏ حفظناه، أو عددناه وبيَّنَّاه ‏{‏في إِمامٍ‏}‏ كتاب ‏{‏مبينٍ‏}‏ اللوح المحفوظ؛ لأنه أصل الكتب وإمامها، وقيل‏:‏ صحف الأعمال‏.‏ والمراد‏:‏ تهديد العباد بإحصاء ما صنعوه من خير أو شر، لينزجروا عن معاصي الله، وينهضوا إلى طاعة الله‏.‏

الإشارة‏:‏ إنّا نحن نُحيي القلوب الميتة بالغفلة والجهل، فنحييها بالعلم والمعرفة، ونكتب ما قدّموا من العلوم، والأسرار والمعارف، وآثارهم، أي‏:‏ الأنوار المتعدية إلى الغير، ممن اقتبس منهم وأخذ عنهم‏.‏ قال القشيري‏:‏ نُحيي قلوباً ماتت بالقسوة، بما نُمطر عليها من صنوف الإقبال والزلفة، ونكتب ما قدموا ‏{‏وآثارهم‏}‏ خطاهم إلى المساجد، ووقوفهم على بساط المناجاة معنا، وما ترقرقَ من دموعهم على عَرَصات خدودهم، وتَصَاعُدَ أنفاسهم‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 19‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏13‏)‏ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ‏(‏14‏)‏ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ‏(‏15‏)‏ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ‏(‏16‏)‏ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏17‏)‏ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏18‏)‏ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «اضرب»‏:‏ يكون بمعنى‏:‏ اجعل، فيتعدى إلى مفعولين، و«مَثَلاً»‏:‏ مفعول أول، و‏{‏أصحاب‏}‏ مفعول ثان، أو‏:‏ بمعنى‏:‏ «مثل»، من قولهم‏:‏ عندي من هذا الضرب كذا، أي‏:‏ من هذا المثال‏.‏ و«أصحاب»‏:‏ بدل من «مَثَلاً»، و«إذ»‏:‏ بجل من «أصحاب»‏.‏ و«أَئِن ذُكِّرتُم»‏:‏ شرط، حُذف جوابه‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبْ لهم‏}‏ أي‏:‏ لقريش ‏{‏مَثلاً أصحابَ القرية‏}‏ أي‏:‏ واضرب لهم مثل أصحاب لهم مثل أصحاب القرية «أنطاكية» أي‏:‏ اذكر لهم قصة عجيبة؛ قصة أصحاب القرية، ‏{‏إِذ جاءها‏}‏ أي‏:‏ حين جاءها ‏{‏المرسلون‏}‏ رُسل عيسى عليه السلام، بعثهم دعاةً إلى الحق، إلى أهل أنطاكية‏.‏ وكانوا عبدة أوثان‏.‏

‏{‏إِذ أرسلنا‏}‏‏:‏ بدل من «إذ» الأولى، أي‏:‏ إذ بعثنا ‏{‏إِليهم اثنين‏}‏ بعثهما عيسى عليه السلام، وهما يوحنا وبولس، أو‏:‏ صادقاً وصدوقاً، أو غيرهما‏.‏ فلما قربا إلى المدينة، رأيا شيخاً يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار، فسأل عن حالهما، فقالا‏:‏ نحن رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن‏؟‏ فقال‏:‏ أمعكما آية‏؟‏ فقالا‏:‏ نشفي المريض، ونُبرىء الأكمه والأبرص، وكان له ابن مريض منذ سنين، فمسحاه، فقام، فآمن حبيب، وفشا الخبر، فَشُفِي على أيديهما خلق كثير، فدعاهما الملك، وقال‏:‏ ألنا إِلهٌ سوى آلهتنا‏؟‏ فقالا‏:‏ نعم، مَن أوجدك وآلهتك، فقال‏:‏ قُوما حتى أنظر في أمركما، فحبسهما‏.‏

ثم بعث عيسى عليه السلام شمعونَ، فدخل متنكراً، وعاشر حاشية الملك، حتى استأنسوا به، ورفعوا خبره إلى الملك، فاستأنس به‏.‏ فقال له ذات يوم‏:‏ بلغني أنك حبستَ رجلين، فهل سمعتَ قولهما‏؟‏ قال‏:‏ لا، فدعاهما‏.‏ فقال شمعون‏:‏ مَن أرسلكما‏؟‏ فقالا‏:‏ الله الذي خَلَق كل شيء، ورَزَق كل حيّ، وليس له شريك‏.‏ فقال‏:‏ صِفاه وأوجزا، فقالا‏:‏ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، قال‏:‏ وما آيتكما‏؟‏ قالا‏:‏ ما يتمنّى الملك، فدعا بغلام أكمه، فدعَوا الله، فأبصر الغلامُ، فقال شمعون للملك‏:‏ أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا، فيكون لك وله الشرف‏؟‏ فقال‏:‏ ليس لي عنك سرٌّ، إن إلهنا لا يُبصر ولا يَسمع، ولا يضر، ولا ينفع‏.‏ فقال‏:‏ إِنْ قدر إلاهكما على إحياء ميّت آمنا، فدعَوا بغلام مات منذ سبعة أيام، فقام، فقال‏:‏ إني دخلت في سبعة أودية من النار لِمَا مت عليه من الشرك، وأنا أُحذّركم ما أنتم عليه‏!‏ فآمِنوا‏.‏ قال‏:‏ وفُتحت أبواب السماء، فرأيت شابّاً حسن الوجه، يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك‏:‏ مَن هم‏؟‏ قال‏:‏ شمعون وهذان، فتعجّب الملك‏.‏ فلمّا رأى شمعون أن قوله أثّر فيه، نصَحه وآمن، وآمن قوم، ومَن لم يؤمن صاح عليهم جبريل، فهلكوا‏.‏

كما سيذكره بقوله‏:‏ ‏{‏إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون‏}‏‏.‏

وهذا معنى قوله هنا‏:‏ ‏{‏فَكذَّبُوهُما‏}‏ أي‏:‏ فكذّب أصحابُ القرية المرسلين، ‏{‏فعَزَّزْنَا‏}‏‏:‏ قويناهما‏.‏ وقرأ شعبة بالتخفيف، من‏:‏ عزّه‏:‏ غلبه، أي‏:‏ فغلبنا وقهرنا ‏{‏بثالثٍ‏}‏ وهو شمعون، وترك ذكر المفعول به؛ لأنَّ المراد ذكر المعزّز به، وهو شمعون، وما لطف به من التدبير حتى عزّ الحق، وذلّ الباطل‏.‏ وإذا كان الكلامُ مُنصبًّا إلى غرض من الأغرض جُعل سياقه له وتوجُّهه إليه كأنما سواه مرفوض‏.‏ ‏{‏فقالوا‏}‏ أي‏:‏ الثلاثة لأهلِ القرية‏:‏ ‏{‏إِنا إِليكم مُرْسَلُونَ‏}‏ من عند عيسى، الذي هو من عند الله‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا أنبياء من عند الله عزّ وجل أرسلهم إلى قرية، ويرجحه قول الكفرة‏:‏ ‏{‏ما أنتم إِلا بشرٌ مثلُنا‏}‏ إذ هذه محاورة إنما تقال لمَن ادعى الرسالة، أي‏:‏ ما أنتم إلا بشر، ولا مزية لكم علينا، ‏{‏وما أنزلَ الرحمنُ من شيءٍ‏}‏ أي‏:‏ وحياً، ‏{‏إِن أنتم إِلا تكْذِبون‏}‏ فيما تدعون من الرسالة‏.‏ ‏{‏قالوا ربُّنا يعلمُ إِنا إِليكم لمرسَلون‏}‏ أكَّد الثاني باللام دون الأول؛ لأن الأول مجرد إخبار، والثاني جواب عن إنكار، فيحتاج إلى زيادة تأكيد‏.‏ و‏{‏ربنا يعلم‏}‏ جارٍ مجرى القسم في التأكيد، وكذلك قولهم‏:‏ شَهِد الله، وعَلِمَ اللهُ‏.‏ ‏{‏وما علينا إِلا البلاغُ المبينُ‏}‏ أي‏:‏ التبليغ الظاهر، المكشوف بالآيات الظاهرة الشاهدة بصحته‏.‏

‏{‏قالوا إِنا تَطَيَّرْنا بكم‏}‏ تشاءمنا بكم‏.‏ وذلك أنهم كرهوا دينهم، ونفرت منه نفوسهم‏.‏ وعادة الجهّال أن يتيمّنوا بكل شيء مالوا إليه، وَقَبِلَتْهُ طباعُهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه، وكرهوه، فإن أصابهم بلاء، أو نعمة، قالوا‏:‏ بشؤم هذا، وبركة ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ حبس عنهم المطر، فقالوا ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ ظهر فيهم الجذام، وقيل‏:‏ اختلفت كلماتهم‏.‏ ثم قالوا لهم‏:‏ ‏{‏لئن لم تَنْتَهوا‏}‏ عن مقالتكم هذه ‏{‏لَنَرْجُمَنَّكُم‏}‏ لنقتلنكم بالحجارة، أو‏:‏ لنطردنّكم، أو‏:‏ لنشتمنكم، ‏{‏وَلَيَمَسَّنكم منا عذابٌ أليم‏}‏ وليصيبنّكم منا عذاب الحريق، وهو أشد العذاب‏.‏

‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ الرسل ‏{‏طائِرُكُم‏}‏ سبب شؤمكم ‏{‏معكم‏}‏ وهو الكفر، ‏{‏أَئِن ذُكِّرتُم‏}‏ أي‏:‏ وُعظتم، ودُعيتم إلى الإسلام تطيّرتم، وقلتم ما قلتم، ‏{‏بل أنتم قوم مُّسْرِفُون‏}‏ مجاوزون الحد في العصيان، فمن ثَمَّ أتاكم الشؤم، لا من قِبَلِ الرسل‏.‏ أو‏:‏ بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم وغيّكم، حيث تتشاءمون بمَن يجب التبرُّك به من رسل الله عليهم الصلاة والسلام‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا أرسل الله إلى قلب وليٍّ وارداً أولاً، ثم شكّ فيه، وَدَفَعَهُ، ثم أرسل ثانياً وَدَفَعَه، ثم عزّزه بثالث، وجب تصديقه والعمل بما يقول، وإلا وقع في العنت وسوء الأدب؛ لأن القلب إذا صفى من الأكدار لا يتجلّى فيه إلا الحق، وإلا وجب اتهامه، حتى يتبين وجهه‏.‏ وباقي الآية فيه تسلية لمن قُوبل بالتكذيب من الأولياء والصالحين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 27‏]‏

‏{‏وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏20‏)‏ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏22‏)‏ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ ‏(‏23‏)‏ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏24‏)‏ إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ‏(‏25‏)‏ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وجاء من أقصى المدينةِ رجل يسعى‏}‏ وهو حبيب النجار، وكان في غارٍ من الجبل يعبد الله، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم، وأظهر دينه‏.‏ قال القشيري‏:‏ في القصة أنه جاء من قرية فسمَّاها مدينة، وقال‏:‏ من أقصاها، ولم يكن بينهما تفاوت كثير، وكذلك أجرى سُنَّته في استكثار القليل من فِعْلِ عَبْدِه، إذا كان يرضاه، ويستنزِرُ الكثيرَ من فضله إذا بَذَلَه وأعطاه‏.‏ ه‏.‏

ولما قَدِم سألهم‏:‏ أتطلبون على ما تقولون أجراً‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا، ‏{‏قال يا قوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا مَن لا يسأَلُكُم أجراً‏}‏ على تبليغ الرسالة ‏{‏وهم مهتدون‏}‏ على جادة الهداية والنصح وتبليغ الرسالة‏.‏ فقالوا‏:‏ وأنت على دين هؤلاء‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏وما لي لا أعبدُ الذي فطرني‏}‏‏:‏ خلقني ‏{‏وإِليه تُرجعون‏}‏ وفيه التفات من التكلُّم إلى الخطاب، ومقتضى الظاهر‏:‏ وإليه أرجع‏.‏ والتحقيق‏:‏ أن المراد‏:‏ ما لكم لا تعبدون، لكن لمّا عبَّر عنهم بطريق التكلُّم؛ تلطّف في الإرشاد، بإيراده في معرض المناصحة لنفسه، وإمحاض النصح، حيث أراد لهم ما أراد لها، جرى على ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وإليه ترجعون‏}‏ والمراد‏:‏ تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أأتخذُ من دونه آلهةً‏}‏ يعني الأصنام، ‏{‏إِن يُرِدْنِ الرحمنُ بضُرٍّ‏}‏ وهو شرطٌ جوابه‏:‏ ‏{‏لا تُغْنِ عني شفاعَتُهم شيئاً ولا يُنقِذُون‏}‏ من مكروه بالنصر والمظاهرة، ‏{‏إِني إِذاً‏}‏ أي‏:‏ إذا اتخذت إلهاً غيره ‏{‏لفي ضلالٍ مبين‏}‏ لفي خطأ بيّن، لا يخفى على عاقل، ‏{‏إِني آمنتُ بربكم فاسمَعُون‏}‏ أي‏:‏ اسمعوا إيماني، لتشهدوا به لي يوم القيامة، فقتله قومُه‏.‏

ولمَّا مات ‏{‏قيل‏}‏ له‏:‏ ‏{‏ادخُلِ الجنةَ‏}‏ فدُفن في أنطاكية، وقبره بها‏.‏ ولم يقل‏:‏ قيل له؛ لأن الكلام مسوق لبيان القول، لا لبيان المقول له؛ لكونه معلوماً‏.‏ وفيه دلالة على أن الجنة مخلوقة الآن‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لَمَّا أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله، فهو في الجنة، ولا يموت إلا بفناء السماوات والأرض، فلما دخل الجنة ورأى نِعَمَهَا، وما أعدّ الله لأهل الإيمان، ‏{‏قال يا ليت قومي يعلمون بما غفرَ لي ربي‏}‏ أي‏:‏ بالسبب الذي غفر لي ربي به، ‏{‏وجعلني من المكرمين‏}‏ بالجنة، وهو الإيمان بالله ورسله، أو‏:‏ بمغفرة ربي وإكرامي، ف «ما»‏:‏ موصولة، حُذف عائدها المجرور، لكونه جُرّ بما جُرّ به الموصول، أو‏:‏ مصدرية، وقيل‏:‏ استفهامية‏.‏ ورُدّ بعدم حذف ألفها‏.‏

قال الكواشي‏:‏ تمنى أن يعلم قومُه أنَّ الله قد غفر له، وأكرمه، ليرغب قومُه في اتباع الرسل، فيُسلموا، فنصح قومَه حيًّا وميتاً‏.‏ وكذلك ينبغي أن يكون كل داع إلى الله تعالى، في المجاهدة والنصيحة لعباد الله، وألاَّ يحقد عليهم إن آذوه، وأن يكظّم كل غيظ يناله بسببهم‏.‏

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سُبَّاق الأمم ثلاثة‏:‏ علي بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون» ه‏.‏

قال القشيري‏:‏ قد أَبْلَغَ حبيب الوَعْظَ، وصَدَقَ النُّصْح، ولكن كما قالوا وأنشدوا‏:‏

وكم سُقْتُ في آثارِكم من نصيحةٍ *** وقد يستفيد البغةَ المتنصِّحُ

فلمَّا صَدَقَ في حاله، وصَبَرَ على ما لَقِيَ من قومه، ورجع إلى ربه، تلقَّاه بحسن إقباله، وآواه إلى كنف إفضاله، ووجد ما وعده به من لُطْفِ نواله، فتَمنَّى أنْ يعلم قومُه حاله، فَحَقَّقَ مُناة، وأخبر عن حاله، وأنزل فيه خطابه، وعَرَفَ قومُه ه‏.‏

الإشارة‏:‏ أحبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله وأنصحهم لهم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لئن يهدي الله بك رَجُلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْرِ النِّعَم» فينبغي لمَن أراد الظفر بمحبة الحبيب، وينال منه الحظوة والتقريب، أن يتحمّل المشاق في إرشاد عباد الله، ويستعمل الأسفار في ذلك، لينال عنده الجاه الكبير، والقُرب العظيم‏.‏ حققنا الله بذلك بمنِّه وكرمه‏.‏